مالهذه الشمس تكاد ترتكن على جبيني؟
يكاد رأسي ينشق متصدعا من انعكاس وهجها الحارق على الطريق وأسطح البنايات وزجاج السيارات.
جفاف حلقي جعل لساني أشبه بثمرة لوف محشوة في جحر رملي مهجور.
تلفتُّ حولي حيث الطريق الممتد جوار النيل في منطقة اسمها صقيل في وسط شمال محافظة الجيزة.. لا مناص من السير طوال كيلومترين لأقرب ورشة اصطحب منها من يصلح سيارتي التي تعطلت بسبب الحرارة..
هل الطريق أطول مما ظننت أم أنه شعوري بالحرارة؟
بركاتك يا آينشتاين..
إنها النسبية يتم تطبيقها على العبد الفقير..
طريق بطول كيلو مترين يبدو مساء أثناء التسكع بمثابة عشرين متراً أو أقل ويبدو في هذا الهجير سفرا بل هجرة.
على شاطئ النيل تماما منطقة تبدو للوهلة الأولى مهجورة لكن عندما اقتربت بدت الحياة فيها.. عمال نصف عرايا يتنقلون جارّين عربات معدنية صغيرة ذات عجلة واحدة امامية وقاعدتين خلفيتين..
ينقلون فيها أشياء تشبه الطوب لكنه أسود رمادي. ينطلقون جيئة وذهابا بين أعمدة عالية ومخازن قرب النهر..
اقتربت أكثر فأكثر والجميع مندمج في عمله.. لم يلتفت أحداً إلَيّ،، وربما لم يرونني من الأصل..
وكلما اقتربت كلما زادت الحرارة وا
شتد عنائي.
وبينما اتوغل داخل الموقع ما بين الصخب والجحيم باغتني صوت انتزعني من شرودي..
صوتاً أجش ذو لهجة ريفية معهودة في ريف مصر البحري.
– بتْدَوَّر على حاجة يا باشمهندس؟
إلتفتُّ إليه مستنجدا ولاهثا بدون كلام وأشرت لعنقي وفمي موحيا بعطشي.
فابتسم وناولني قارورة خزفية كانت بالفعل في يده وهو يبتسم قائلاً.
– امسك القُلَّة بِل ريقك.
لم أبالي بيدية الغليظة المشققة ولا أسنانه المفقودة الظاهر أطلالها من خلف شارب غزير يكاد يخفي فمه لولا ابتسامته العريضة..
تناولت القنينة ورفعتها على فمي وانساب منها الماء باردا رطبا مشتتاً مابين فمي وأنفي وعنقي بسبب الثقوب العشوائية في عنقها..
كانت تزغرد ترحيباً وقلبي يرقص منتشياً ومعدتي تصرخ هلعاً من ارتطام ذلك السيل البارد برمادها المشتعل عطشاً.
لم أكد افارق القنينة حتى وجدت ذلك المنقذ عاد لموقعه على بُعدِ مترين وجالساً في ظلِ أحد الأعمدة على بساط من الخوص الرقيق وجواره وسائد بالية تطل من أطرافها ملابس رثة هي ذاتها الحشو..
أشار لي بالجلوس ولم تفارقه الابتسامة.
ووجدتني منصاعاً له بدون تردد فقد شعرت بالأمان المتبادل برغم ملامحه المفزعة المتمثلة في وجهه العريض وعيناه الجاحظتين وجبينه الضيق الذي جعل شعر رأسه يوشك أن يلامس حاجبيه العريضين..
سُمرة بشرته غير حقيقية فجلبابه البالي ممزق الصدر يكشف عن هامة سوداء تنتهي بصدر حنطي.
جلست ونظرت إليه ناقلا عيناي في أرجاء المكان متسائلا فأجابني بعفوية وفراسة.
– شكلك مش من النواحي دي..وطبعا مش ضيف ولا زيارة وإلا كان هيبقى معاك حد من البلد.. وهدومك بتقول انك مش صنايعي.. انت اكيد عربيتك عطلانة قريب من هنا..وأكيد أكيد في اليمَّة دكها عشان الميكانيكي بحرينا.. يعني انت عطلت بيك العربية جبلينا وانت عشان تروح للميكانيكي هتفوت من هنا..
أصابني الذهول..
كيف في دقيقة وربما أقل استطاع أن يضع فرضياته ويستنتج نظرياته ويستشهد بالمعطيات بهذه الدقة؟
ثم استعدت لحظة ولوجي هنا فهو عندما رآني قام بالقنينة الفخارية وتقدم نحوي لأنه واثق انني ظمآن..
هل هو شارلوك هولمز متنكر في ملابس متشرد؟
وقبل أن اتفوه بكلمة قال في فخر.
– احنا هنا بنعمل طوب ني..
بنعجنه هناك ونقطعه هناك ونحرقه هناك..
كان يشير بإصبعه الغليظ مع كل جملة.. تارة نحو النهر وتارة نحو المخازن أو ماظننتها كذلك وتارة نحو الأعمدة التي نرتكن على إحداها.
فرفعت رأسي وحاجبَيِّ معبرا عن فهمي لما كنت استفسر عنه ونظرت خلف ظهري حيث الفرن التي كنت أظنها عامود وقلت باسلوب المفتشين عند الزيارات المباغتة للمصانع..
– والعامود ده انت مش مِشَغله عشان تقعد جنبه وتعمله ضُليلة صح؟
تغيرت ملامحه وظننت انه سيسبني ويطردني بعدما آواني في جنته المؤقته لكن أدركت لوهلة ان تغير الملامح لم يكن للغضب.. لا إنه كان حسرة أو انكسار أو حزن… انه شرد واخذ نفسا عميقاً ونظر للأرض بيني وبينه ثم أمال رأسه ناظرا إليّ كمن سيبدأ في سرد رواية.
– لا ياسيدنا.. دي كوشة الكلاب.
انتظرت منه ان يكمل ولا يضعني في حرج الجهل كثيرا لكنه انتقل ببصره نحو الكوشة المزعومة وكأنه يخاطب شيئا في ذاتها..
كأنه يعتذر.. كأنه يستعيد ذكرى مؤلمة.
فما كان مني إلا أن اتنازل عن تظاهري بالفهم وأسأل.
– كوشة إيه وكلاب إيه معلش سامحني انا ما اعرفش غير كوشتين في حياتي كوشة العروسة بتاعة الفرح.. وكوشة البوتاجاز..
ومتهيألي بما إن دي بتحرقوا فيها الطوب تبقى… فقاطعني بهدوء ورزانة لا تتناسب مع هيئته إطلاقا.. وقال وهو يتنفس الصعداء.
– بص يا باشمهندس.. دي حاجة زي فرن بس مِنُّه فِيه.. بنرُص الطوب فوق بعض ويبقى عامود ونعجن طين ونلَيّسُه زي المحارة ونحط جواه وبراه مازوت وقش ونولع النار لغاية ماتِصفىٰ يقوم الطوب بدل ماهو طين يتحمص ويبقى احمر زي اللي انت عارفه.
معلومة جيدة بالنسبة لي لكن من هم الكلاب الذين يقصدهم.. ربما كلاب بالفعل ويسكنون داخلها من حر الشمس… أو هم أعداء أو شركاء ينغصون عليه أوقاته بشكل أو بآخر لكن كيف أعداء ويستند على كوشتهم؟ لا استطيع الصبر.. بادرته فورا بسؤالي كطفل منتظر من جدته النصف الشيق من حكاية ماقبل النوم.
– وايه حكاية الكلاب؟ لو مش عاوز تقول براحتك بس مش هتخسر حاجة لو قلت.. انا حيا الله غريب هسمع وامشي وكأنك ماشوفتنيش هسمع من هنا وافوِّت من هنا.
يبدو أن قولي أثار شيئا في حفيظته فقد وضع كفه بثقلها على فخذي الهزيل وقال بلهجة لم أستطيع تصنيفها إن كانت طلب أو عرض… أمر أم رجاء. قال وهو يرتجف.
– لا ياباشمهندس انت لازم تعرف حكاية الكلاب.. وتقولها لكل اللي تعرفه.. وتحكيها لكل اللي تقابله.
ما كان مني إلا أن اعتدلت وكلي استعداد لسماع القصة..
وارتكن هو على الكوشة واستند برأسه عليها مستعيدا الأحداث وبدأ في السرد شاردا كالمسحور.
– من سنتين بس في يوم حر زي النهاردة كنا بالظبط زي ما انت شايف شغالين ..كل عامل عارف اللي عليه ومحدش بيكلم حد وكل واحد في حاله.. بنقضي اليوم لاجل مانخلص الطريحة وناخد عرقنا ونروح لعيالنا..
فات اليوم وكانت الكوشة دي مبني تلتينها.. يعني فاضل كام صف وتكمل…
رجعنا علي بيوتنا وبالليل حصل اللي مانعرفهوش ولا حضرناه ولا لينا ذنب في نتيجته..
سألته وقد بدأت اتشوق للقصة.
– إيه اللي حصل بالليل؟
فأجابني بأسلوب جديد لم أعهده في أي حكاية سمعتها.. حيث قال مبتسما بذكاء.
– وهو انت عاوز تعرف اللي احنا لسه ماعرفناهوش.. هقولك اللي حصل .. وزيك زينا وهتعرف دلوقتي.
أعجبني أسلوبه التشويقي فاستسلمت له واستطرد هو قائلا
– جينا تاني يوم كملناها وحطينا المازوت وولعنا النار.. ولعلمك يا باشمهندس..
الحرارة بتبقى 900 درجة يعني جهنم..
جهنم والله يا باشمهندس..
قالها ودَمَعت عيناه.. ثم أشار لمدخل الموقع حيث أتيت.. وقال واصفاوبدقة.
– دخلت كلبة بلدي من بره وكان في حنكها قش.. كانت بتشرب من حوض مكنة الري مسافة نص ساعة رايح وزيها جاي.. ويادوب عينها جت على الكوشة وهي قايدة نار إلا والكلبة تقولش مسكتها الكهربا ؟ لقيناها بتجري زي الصاروخ ودخلت في قلب الكوشة.. ومحدش لحق يمنعها ولا يزيحها.
هنا بدأت أرتجف وبدأت الظنون وتخيلاتي لما قد يكون حدث بالأمس لكنني آثرت أن أسمع منه أفضل.. فسألت مندهشا.
– طب والنار؟.. هي ما صرختش؟ ما رجعتش؟ ولا مالحقتش؟
أجابني فاردا كفية كمن ينطق بنظرية مؤكدة.
– الضنا.. الضنا أغلى من الروح يا باشمهندس..
احنا ماعملناش حاجة غير اننا استنينا.. لما النار خلصت والكوشة بردت تالت يوم وبصينا جوه الكوشة لقينا عضم الكلبة مفحم وتحته فتافيت عضم كتير مش منها.. ها.. عرفت اللي حصل بالليل ولا أقولهولك؟
هنا فقط وجدتني لا أريد سماع المزيد..
وجدتني نادما على سماعي للقصة وعلى جلوسي في هذا المكان..
حزينا تملؤني كآبة لا أدري كيف أزيلها..
صخرة أطبقت على صدري لا ملاذ منها..
وهنا دار أمام عيني ماحدث في الليلة المعهودة.
عندما رحل العمال.. أتت هذه الكلبة وقد أتاها المخاض وبحثت عن مكان آمن فلم تجد ءأمن من الكوشة فهي بمثابة عش بعيد عن أعين الغرباء وعبث الأطفال بجراءها ومكمن من شمس النهار..
وضعتهم وأرضعتهم وعندما أطلت الشمس وبينما كانت ترضع صغارها حتما ألح عليها العطش.. فتركتهم في مخبأهم وذهبت لترتوي وتستعد لإرضاعهم..
وبينما هي في رحلتها التي استغرقت ساعة كان العمال حضروا وأتموا البناء وأشعلوا النار غير مدركين أنهم أضرموا النار في جراء عميان..
وعند عودتها ورؤيتها للنار انقبض قلبها وانطلقت تحمي صغارها ..
من المؤكد أنها أدركت خطر اجتيازها لجدران الكوشة وولوجها في هذه النار لكن كيف..
كيف تبتعد لتأمن بنفسها وهي تعلم أن صغارها في خطر.. هي لا تعلم أنهم ماتوا وأنها ذاهبة لحتفها.. لكنها دخلت وارتمت عليهم ربما صرخت وربما بكت وربما استغاثت..
لكن قُضيَ الأمر…
ماتت محترقة متفحمة محتضنة جراءها..
ماتت فوقهم لتقلل عن جثثهم ألم الإحتراق حتى تفحمت وهم كذلك تحتها.
إنها صورة من صور الأمومة.
قمت صامتا..
وخرجت من الموقع.. وذهبت حتى ورشة إصلاح السيارات.. لم أشعر بالشمس ولا بلفح وهجها ولا بانعكاس ضوءها الصارخ على عيناي.. رآني الحرفي وأجلسني وقال كلاما كثيرا لم أسمعه وأعطاني ماءا أو ربما عصيرا لا أعلم.. وبعد فترة لا أعلم إن كانت ساعة أو أقل بدأت استفيق.. فإذا بسيارتي موجودة بالورشة والحرفي يعاتب رجل الكوشة قائلا.
حرام عليك يا عم مرعي.. ده رابع واحد يجيني مدَهول وتايه بسبب حكاية الكلاب دي..
انسى بقى.. دي كلاب وراحت يابا.
كلاب وراحت
بقلم #محمدعليم
Emy
September 10, 2020 at 10:02 pmجميله و ممتعه
Mohamed oleem
October 17, 2020 at 10:13 pmبعض ماعندكم
Add a comment