لا أصدق قصص الأشباح و العفاريت ، و لا أؤمن بوجودها ، كما أني لا أميل لمشاهدة افلام الرعب ، و أتفه دائما من أساليبهم الساذجة في استثارة غرائز الخوف داخل قلوب الآمنين ، و بذل جهد جهيد في ترويعهم ، و على الرغم من ذلك سرت ارتجافه قوية في جسدي ، و أنا أسمع وقع خطواتي المتسارعة تتردد في مداخل المنازل الخاوية ، على جانبي ذلك الشارع المعتم ، على أطراف المدينة ، و الخالي تماما من المارة ..
السماء الملبدة بالغيوم ، حاصرت القمر غير المكتمل ، و حجمت رسائله الضوئية الواهنة ، فأرسل خيوطا شاحبة عكست ظلالا عملاقة لكل حصاة صغيرة في الطريق ، تتموج من حين لأخر بفعل مرور الغيمات تواليا ، و اكتظت الأجواء بخيالات مبهمة تبعث الرهبة ، و تهيج الشعور بمخاوف مبهمة من خطر محدق …
لم اخضع مشاعري يوما لابتزاز صناع الرعب ، و مسوخهم المخيفة ، و لم تفلح كل محاولاتهم أن تهز في جسدي شعرة واحدة ، و ها انا ذا أفعل الآن مرغما …
حينا أفتعل سعالا ، و حينا اتنحنح كي أجلب صوتا يؤنسني ، فجاءت النتيجة عكسية عندما تردد صداهما طويلا في الفراغ ، و بدت كضحكات شيطان مريد ، فخفق قلبي بقوة ، و تسلل التوتر في خلايا جسدي كله ، بفعل الارتجاف الذي تمكن من أوصالي ، حتي باتت خطواتي اشبه بطفل نهض من الحبو لتوه …
لم أشعر بهذا الخوف من قبل ، بل لم أشعر بالخوف أصلا ، هذه هي المرة الأولى ..
يا إلهي ..
هي غريزة لا مناص منها ..
مهما ادعيت القوة و الشجاعة ، لن يمكنك الفكاك من تكوينك ، أو التملص من طبيعتك البشرية ..
تلك الغرائز تسرى في أجسادنا سريان الدماء في العروق ، متأصلة داخل خلايانا ، و ها هو الخوف الذي كنت انكره تمكن مني ، و فرض هيمنته على كل وظائفي الحيوية ، و أنا أعجز حتى عن السير مستقيما …
ما جاء بي إلى هنا أيضا غريزة ، و لكنها غريزة شيطانية جمحت كباحها كثيرا ، و أجهضت سعيرها مرار ، حتى هزمتني ..
بذل أصدقاء الجامعة كل المحاولات الممكنة لجذبي إلى سهراتهم ، و لياليهم الحمراء الحامية ، التي يدعونها (ليالي أبو لهب الماجنة ) ، لا تخلو من النشوة و ملاطفة النساء و كل ما طاب من الملذات ..
في كل محاولة كنت أصدهم ، متسلحا بعزيمة حديدية صنعها أب ورع ، بنفحات إيمانية ، و حكم ناصحة ، منهلها علم غزير ..
كلماته الراشدة صاحبتني أينما حللت ، و تجسدت أمامي حية في أوقات حرجة ، تثنيني عن الميل ، و تقيمني عن الاعوجاج حتى ..
حتى خضعت ..
خارت مقاومتي ، و نأت إرادتي بحمل الاستقامة والثبات ، سال لعابي أمام لهث الشهوات ، و استسلمت لوخزات الحرمان ، و قلت لنفسي هي مرة ..
فقط مرة ..
اعرف فيها كيف يكون المذاق …
بدا الشارع المظلم و كأنه ممتد بلا نهاية و بات صوت ضربات قلبي أعلى من وقع خطواتي المترنحة و غلفت عيناي طبقة مائية متموجة من أثر الهواء البارد و أضاف صفيره الشبيه بصراخ أنثى ملتاعة يأتي من بعيد المزيد من الرهبة إلى الأجواء الموحشة ..
فجأة ..
لم أعد أسير وحدي في الشارع…
ارتفع من خلفي صوت خطوات مسرعة ..
تسمرت في موضعي ، و لم التفت .. توقفت الخطوات ، و كأن هناك من يتبعني ..
تجمدت الدماء في عروقي ، و حبست أنفاسي ، أو أبت هي الخروج و قد طالها الخوف ، فتشبثت مختبئة في صدري ، و بدأت عشرات الاحتمالات المخيفة تتدافع في رأسي بجنون ، حدقت في الفراغ أترقب اللحظة القادمة ، حتى باتت عيناي و كأنهما سيقفزان من محجريهما ..
مرت الثواني بطيئة ، ثقلت قدماي ، و لم أبرح مكاني ، حتى ارتفع صوت الخطوات من خلفي مرة أخرى تقترب ببطء ، و تحت الأضواء الشاحبة بدأ يتضخم ظل أمامي لمن يتقدم من خلفي تدريجيا ، حتى صار هائلا افترش الطريق بأكمله ..
كان ظلا لشخص أو لشيء لا أدري ، عريض المنكبين أشعث الشعر ، بدأ نفسي المكتوم يضغط على كل أوردتي ، فاندفعت الدماء تبحث عن الأكسجين المفقود ، و احتقن وجهي بشدة في حين بدأ الظل يتضخم اكثر مع اقترابه ، و يميل إلى أقصى اليمين زاحفا على واجهات المنازل ، و كأن صاحبه يلتف حولي ، فدرت بجسدي بدوري أتواري عن مواجهته ، حتى دُرت نصف دورة ، و أصبحت في مواجهة مدخل الشارع من حيث جئت ، و صار هو خلفي …
وجدتها فرصة سانحة لا تحتمل التفكير لحظة واحدة و أطلقت لساقيّ الريح ..
ركضت بكل قوة ..
سرعة لم أعهدها في نفسي من قبل ..
ركضت بلا توقف حتى بعدما لاحت صور الحياة و بدأ بعض المارة يظهرون في أنحاء متفرقة ..
لم أتوقف ..
وصلت المنزل بأنفاس مفقودة ، و اندفعت إلى غرفتي مباشرة ، انكمشت على السرير اضم ذراعيّ و ساقيّ إلى صدري ، التقط أنفاسي بصعوبة بالغة ، و ضربات قلبي السريعة تحث رئتيّ على سحب الهواء بشهيق مسموع ..
مرت دقائق على هذا الوضع قبل أن يدخل أبي هلعا ، يتطلع في دهشة إلى حالتي المزرية ، التي لا تتناسب و سنوات عمري التي توغلت في عقدها الثالث …
أسرع يحتويني بين ذراعيه ، بلهفة أب لا يرى أبنه كبيرا أبدا ..
دفنت رأسي في صدره ، و وددت لو أصرخ :
– سامحني يا أبي ، قد نلت من الجزاء ما يكفي حيدي عن تعاليمك ، و خروجي على منهجك القويم .
لكني لم اتفوه بحرف ، و استمر ارتجافي و لهاثي طويلا ، حتى خفُت كل شيء بالتدريج ، و بدأ جسدي كله يرتخي من أثر الإجهاد ، الذي حل عليه دفعة واحدة ، فثقل جفناي بشدة ، قبل أن يقوم أبي ببطء يضع رأسي على الوسادة برفق ، و دثرني جيدا ..
على باب الغرفة اطفأ النور ، و وقف يلقى نظرة أخيرة …
بعينين مواربتين ، و على ضوء الردهة الباهت ، المنبعث من خارج الغرفة ، رأيت ظل أبى ممتدا على أرضية الغرفة ..
و للمرة الأولى ألحظ شكل أبي في الظل ..
كان ظل لرجل عريض المنكبين أشعث الشعر …
تراقص المشهد لثوان ..
تمكن الخدر من جسدي بكامله ..
دارت عيناي في محجريهما ..
ثم غصت في نوم عميق ..
جدا .
تمت
Kotoobook
September 8, 2020 at 3:18 pmاستمر يا اسماعيل 🙂
Add a comment